مرسوم الانتخابات الفلسطينية- صدمة وشكوك أم خطوة نحو المجهول؟

إن الإعلان عن إجراء انتخابات عامة بهدف تجديد المجلس الوطني الفلسطيني، كان من الممكن أن يمثل بشرى سارة للفلسطينيين الذين يتوقون بشدة إلى إعادة بناء وتنشيط منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثل "وطنهم المعنوي". فلطالما نادوا بتبني أساليب ديمقراطية في تكوين المؤسسات التمثيلية، بعيدًا عن التعيينات والمحسوبية والمحاصصات الفصائلية التي تخدم مصالح ضيقة.
إلا أن المرسوم الرئاسي المفاجئ، الذي دعا إلى إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الحالي، فاجأ الفلسطينيين وأثار لديهم موجة من الشكوك والتساؤلات تفوق ما أثاره من مشاعر التفاؤل والارتياح. فقد لقي المرسوم رفضًا واسعًا من قبل الفصائل الرئيسية داخل المنظمة وخارجها، ولم يؤيده إلا قلة من الفصائل الهامشية التي لا تقوم بدور سوى "المبايعة" و"التصفيق" لكل ما يصدر عن القيادة المتنفذة في السلطة والمنظمة من قرارات ومراسيم.
كما أثار المرسوم استياءً عارمًا في صفوف الشخصيات والهيئات والمؤسسات الوطنية المرموقة، وبدا وكأنه قفزة في المجهول، يحمل في طياته سيناريوهات محفوفة بالمخاطر.
فالمرسوم جاء في خضم حرب الإبادة والتطهير التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، وبشكل أقل حدة في الضفة الغربية، دون أن يكلف من أصدره نفسه عناء الإجابة عن سؤال جوهري: كيف يمكن إجراء انتخابات في قطاع غزة المدمر، وكيف نطلب من المعذبين والمجوعين والمروعين في وطنهم أن يخرجوا من مخيمات النزوح المكتظة إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم؟ وهل توجد مساحة كافية في غزة لإقامة مثل هذه المراكز من الأساس؟
يعكس هذا المرسوم خللًا واضحًا في ترتيب الأولويات لدى من أصدره، فهل هناك أولوية أهم من وقف المذبحة وإطعام أكثر من مليوني فلسطيني يعانون الجوع في القطاع المحاصر؟
لم يوضح المرسوم أيضًا كيف وأين ستجرى هذه الانتخابات، وهل قامت الجهات المعنية بالاتصال بالحكومات والدول التي تستضيف سبعة ملايين لاجئ فلسطيني؟ وهل تم إعداد سجلات بالناخبين المحتملين على الأقل، لتحديد من هو الفلسطيني المؤهل للتصويت، ومن ثم تحديد نسب المشاركة في هذا الاستحقاق الذي لم يشهد الفلسطينيون مثيلًا له منذ تأسيس منظمتهم قبل أكثر من ستين عامًا؟
كما لم يوضح المرسوم كيفية التعامل مع الرفض الإسرائيلي المتوقع لإجراء الانتخابات في القدس الشرقية، وهي الذريعة التي استخدمت لتعطيل انتخابات تشريعية ورئاسية عامة كانت وشيكة، بعد أن تشكلت القوائم والتحالفات وبلغت الاستعدادات ذروتها، قبل أن يصدر مرسوم رئاسي آخر بتأجيلها بحجة "عدم التخلي عن القدس ومشاركة أهلها في الاستحقاق".
فما الذي تغير اليوم، أو بالأحرى، ما الذي سيتغير غدًا، عندما تعلن تل أبيب بصراحة رفضها إجراء الانتخابات في "العاصمة الأبدية الموحدة" للكيان؟
يطرح هذا المرسوم المثير للجدل أسئلة من قبيل: لماذا البدء بانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني؟ ألم يكن من الأجدر تجديد مؤسسات السلطة، بدءًا من الرئاسة التي انتهت ولايتها منذ ستة عشر عامًا، وصولًا إلى المجلس التشريعي "المغدور" الذي انتهت ولايته أيضًا منذ خمسة عشر عامًا، فضلًا عن عشرات المنظمات الشعبية التي لم يعد لها دور يذكر في الحسابات الفلسطينية بعد أن تم الاستيلاء عليها وتهميشها، بعد أن كانت ملء السمع والبصر في الماضي؟
يدرك مصدرو المرسوم كما ندرك نحن، وكما يدرك كل فلسطيني، أن فكرة "انتخاب" المجلس الوطني ستتحول إلى "بازار" مفتوح من التعيينات بالجملة والمفرق، وفقًا لمعايير صارمة تعتمد على الولاء الشخصي والفصائلي، وتهدف إلى إعادة تشكيل المنظمة وفقًا لمعايير أوسلو وما بعد أوسلو، بحيث تفقد المنظمة صفتها التمثيلية كحاضنة للتعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، وتتحول إلى امتداد "شرعي" لفريق متنفذ، يسعى إلى التكيف مع "مخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، لا أكثر ولا أقلّ.
إنها طعنة غادرة تسدد في ظهر "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب الفلسطيني، بهدف تهميش كل من يعارض أو يقاوم "أوسلو" في أسوأ صورها، وهي تلك التي تنتظر الفلسطينيين وتكشف عنها خطط أعدائهم ومشاريعهم لمستقبل لا مكان فيه للحرية والاستقلال، ولا "مكان تحت الشمس" لدولة فلسطينية على أرضها الوطنية، ناهيك عن العاصمة وحق العودة والسيادة.
يعي مصدرو المرسوم الرئاسي التحديات والمشاريع التي تنتظرهم، وهم يستعدون منذ الآن للتكيف معها، فليس في قاموسهم مفردات مثل الصمود والثبات والمقاومة.
إنهم يعرفون أن أي شخص لديه الحد الأدنى من القيم والمبادئ التي قامت عليها الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لن يقبل باستخدام "خاتم" المنظمة للتصديق على التسويات والصفقات المشبوهة.
لذلك يسارعون إلى إعادة تشكيل المنظمة، وإقصاء كل من انشق عن "أوسلو" أو استخلص العبر من الإخفاقات المتكررة لهذا المسار، وقرر العودة إلى أساسيات التحرر الوطني.. إنهم يريدون منظمة على مقاس ترامب وويتكوف، والأهم على المقاس الإسرائيلي الأكثر ابتذالًا.
الأصل في الانتخابات هو تجديد وتنشيط مؤسسات الحكم والسلطة (المنظمة في حالتنا هذه)، وهي مصممة لإعادة إنتاج "الشرعية الفلسطينية".
ولتحقيق هذه الأهداف، يجب أن تتم الانتخابات بالتوافق، وكنتيجة لحوار وطني جاد ومسؤول، وليس مجرد إجراء شكلي. وبالنظر إلى غياب هذين الشرطين، يرى الكثيرون، بمن فيهم نحن، أن هذه الانتخابات، سواء أجريت أو استبدلت بالتعيين، ستكون بمثابة معول هدم لما تبقى من الوحدة الوطنية، وستعمق الانقسام الفلسطيني بدلًا من رأبه.
لسنا على يقين من أن هذا المرسوم سيتحقق، فقد اتخذ في ظروف غامضة، وبمعزل عن التشاور حتى مع قيادات فتح والسلطة، وبشكل منفرد من قبل "ترويكا" أو "رباعية" القرار الفلسطيني، وهو ما يذكرنا بمرسوم آخر اتخذ بالطريقة ذاتها، وانتهى إلى تعميق الانقسامات وإثارة المزيد من الخلافات، وهو المرسوم المتعلق بنزع "سلاح المخيمات" في لبنان.
فقد ذهب الرئيس إلى بيروت بهدف تسهيل هذه المهمة على الدولة والجيش، لكنه لم يستشر أحدًا من الفصائل والقوى الفلسطينية (وقوى الأمر الواقع)، ولا حتى قادة فتح وجنرالاتها وسفيرها في بيروت.
عاد الرئيس من رحلة وصفت بـ"التاريخية" وبقي السلاح على حاله، مخلفًا وراءه المزيد من الانقسامات والخلافات، ليس بين فتح وحماس فحسب، بل وفي داخل فتح ذاتها، وبقية القصة معروفة، وما زالت تتوالى فصولها في إثر التنقلات والعقوبات والإحالات على التقاعد التي جرت وتجري لتمرير قرار منفرد تحوم حوله الشكوك والنوايا السيئة.
في تفسير هذين "المرسومين" المثيرين للجدل، يتحدث البعض عن حالة "انفصال" عن الواقع تعيشها "نخبة القرار" في رام الله، التي ما زالت تتصرف وكأنها ممسكة بزمام الأمور، رغم أنها الغائب الأكبر عن المشهد الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الأقل.
لكنني أعتقد أن هذا التفسير يبدو قاصرًا، ولا يجمع الصورة من جوانبها كافة. في رأيي أن تفجير قنبلة بيروت كان عملًا مدروسًا ومنسقًا مع أطراف عربية ودولية، وإسرائيل ليست بعيدة عنه، والهدف هو "إحراج المقاومة وإخراجها" من قواعدها الشعبية، استمرارًا لنهج يستهدفها في غزة ويقاتلها في الضفة.
لم يكن الهدف هو إلقاء الكرة في ملعب حماس والجهاد ومن تحالف معهما من فصائل المقاومة، بل إلقاء قنبلة في حضنهما على أمل أن تصيبهما شظاياها بإصابات قاتلة. وربما نذهب أبعد من ذلك لنقول إن "مرسوم سلاح المخيمات" كان حلقة في مسلسل الجهود والضغوط التي يقودها توم باراك لنزع سلاح حزب الله وتجريده من عناصر قوته.
أما المرسوم الأخير المتعلق بالانتخابات، فيهدف إلى إحراج المقاومة وإخراجها من منظمة التحرير قبل أن تدخلها، في خطوة تهدف إلى "نزع الشرعية" عنها، في تناقض مع الدعوات والمطالبات التي انطلقت مع "طوفان الأقصى" والتي دعت إلى توفير "شبكة أمان" للمقاومة من خلال دمجها في منظمة التحرير والذهاب إلى حكومة وحدة وطنية تمثل جميع الفلسطينيين.
يندرج المرسومان في سياق "حرب التطويق" متعددة الأطراف والجبهات التي تتعرض لها قوى المقاومة الفلسطينية، والتي تتجلى فصولها الأكثر بشاعة في الحرب المستمرة على غزة، ومسلسل الاغتيالات، وعمليات التشويه، وتجفيف البيئات الشعبية والحزبية الحاضنة لها.
إنهما باختصار فصل من فصول العدوان على المقاومة، ولا يحملان أي رغبة أو إرادة في ترتيب البيت الفلسطيني وإعادة توحيد الصفوف، فظاهرهما لا يخفي باطنهما، ولا رحمة ترتجى منهما بل عذاب مقيم.